هذه مقاله للأستاذ الدكتور نظمي خليل أبوالعطا موسى
أستاذ علوم النبات في الجامعات المصرية ارجو ان تقراوها للاستفاده
جعل الله سبحانه وتعالى طريقين ليصل بهما الإنسان إلى معرفة حقائق الوجود، أحدهما: العقل الذي خلقه فيه وجعله قوة نامية وبه يدرك (الإنسان) حقائق العالم المحسوس، وإن كان إدراكه لهذا العالم نفسه أيضا ناقصا غير كامل، ومتقدما تدريجيا خلال العصور والأزمان.
أما الطريق الثاني فقد جعله الله لإدراك حقائق علم الغيب وما وراء عالم الشهادة مما لا يستطيع العقل وحده إدراكه لأنه من طبيعة مختلفة عن طبيعته، وذلك لئلا يدع الإنسان جاهلا غافلا عما وراء الكون (وحتى لا يجعله يتوه ويضيع بعقله القاصر في عالم الغيب الفسيح), ولأن وراء ذلك مسئولية يحملها الإنسان بعالم الغيب، والكشف عن الحقائق الكبرى وأهمها الحقيقة الإلهية، وهذا الطريق هو طريق الوحي إلى الأنبياء والرسل (كما قال محمد مبارك في العقيدة والعبادة، نقلا عن المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، يوسف العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1994م).
وحتى يعلم الله تعالى عباده العقيدة على أساس شرعي – علمي يأتي الله تعالى بآيات الإيمان ثم يتبعها بالآيات الكونية، كما هو الحال في سورة (المؤمنون) حيث بدأها الله تعالى بصفات المؤمنين الفالحين فقال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ{3} وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ{4} وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{5} إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ{6} فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ{7} وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ{8} وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ{9} أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ{10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{11} وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ{12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ{13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ{14} ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ{15} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ{16} وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ{17} وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ{18} فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ{19} وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ{20}) المؤمنون (1-20).
وبعد ذلك بدأت الآيات الكونية ببيان خطوات نمو الجنين في الرحم من النطفة إلى العلقة فالمضغة فالخلق الآخر، ثم أتبع هذا الوصف ببيان حقيقة الموت والبعث وبدأ سبحانه ببيان بعض الحقائق العلمية الكونية من عالم المياه والنبات والعلاقة الوطيدة بين الماء والإنبات فقال تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ{18} ) (المؤمنون/18).
قال الشيخ عبدالرحمن بن السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان في بيان قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) يكون رزقا لكم ولأنعامكم بقدر ما يكفيكم، فلا ينقصه (بحيث لا يكفي الأرض والأشجار، فلا يحصل منه المقصود، ولا يزيده زيادة لا تحتمل) بحيث يتلف المساكن ولا تعيش منه النباتات والأشجار، بل أنزله وقت الحاجة لنزوله، ثم صرفه عند التضرر من دوامه.
(فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ)أي: أنزلناه عليها، فسكن واستقر وأخرج بقدره منزله جميع الأزواج النباتية، وأسكنه أيضا معدا في خزائن الأرض، بحيث لم يذهب نازلا حتى لا يوصل إليه ولا يبلغ قعره (وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) إما بألا ننزله، وإما ننزله فيذهب نازلا لا يوصل إليه، وإما لا يوجد منه المقصود، وهذا تنبيه منه لعباده أن يشكروه لنعمته، ويقدروا عدمها، ماذا سيحصل به من الضرر، كقوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ) (الملك/30).
(فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ) أي بذلك الماء (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) خص تعالى هذين النوعين مع أنه ينتشر منه غيرهما من الأشجار، لفضلهما ومنافعهما التي فاقت بها الأشجار ولذلك ذكر العام في قوله (لَّكُمْ) أي في تلك الجنات فواكه كثيرة منها تأكلون من تين وأترج ورمان وتفاح وغيرها (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء) وهي شجرة الزيتون أي: جنسها خصت بالذكر لأن مكانها خاص في أرض الشام ولمنافعها التي ذكر بعضها في قوله (تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ) أي فيها الزيت الذي هو دهن، يستعمل إستعماله من الإستصباح به، وإصطباغ للآكلين أي يجعل إداما للآكلين وغير ذلك من المنافع، انتهى
ولتوضيح الجوانب العلمية في الآيات السابقات نقول وبالله التوفيق:
يقول تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ) أي أن الله تعالى ينزل الماء من السماء بالمطر بقدر معلوم في المكان المعلوم، فكمية الأمطار التي تسقط كل عام على الأرض ثابتة ولو قل المطر عن القدر المطلوب في المكان المعين لحدث هلاك للنبات والحيوان، ومشقة للإنسان، وتصحر للأرض الزراعية، وقل العشب وهلكت الحيوانات العشبية البرية وتبعها موت للحيوانات اللاحمة في المكان نفسه، وهذا ما نراه الآن من الجفاف الشديد وهلاك البيئة والكائنات الحية في الدول الإفريقية وغيرها، وإذا زادت كمية المطر على الحد المطلوب غرق الزرع وهلك، وتهدمت المزارع والمساكن والطرق وغرق الحيوان وهلك الإنسان , فالسيول تدمر البيئة والحيوان والنبات وتهدد الإنسان في كثير من بلدان شرق آسيا وإفريقيا.
إذا من نعمة الله ومن فضله أن تكون كمية المياه الساقطة على الأرض بقدر معلوم بحيث تروي الزرع وتسقي الحيوان والإنسان ولا تهدم السدود ولا تتخطى الحدود وأن تكون الأرض قادرة على إستيعاب هذه الكمية في بحيراتها العذبة، وفي أنهارها ومساقيها وفي الخزانات المائية الجوفية , وأن تكون تلك الأنهار قادرة على تصريف تلك الكمية من الأمطار، والله سبحانه وتعالى قادر على أن يذهب هذا الماء في الأرض ويغوره بعيدا عن المنفعة البشرية وأن يجعل طبقات الأرض غير محتفظة به وقد شبه المصطفى صلى الله عليه وسلم ذلك بمثل معجز فقال: (مثلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكانت منها أجادب – وفي رواية أخرى إخاذات – أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقو وزرعوا – وفي رواية أخى ورعوا – وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلمه وعلّمه، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به) رواه البخاري ومسلم والنسائي، فإن زادت كمية المياه أفسدت الحرث والنسل وإن قلت أهلكت الحرث والنسل، وإن غارت في الأرض هلك الحرث والنسل وإن كانت بالقدر المطلوب أصلح الله بها الحرث والنسل.
والله ينبت الزرع وينميه بالماء، وهو سبحانه خلق لنا الزروع المتباينة الأجناس والأنواع والأصناف، وينشيء لنا بالماء والأرض الطيبة , والعوامل البيئية المواتية البساتين ذات النخيل الجميلة والمفيد لكل شيء فيه , وبثمراته المتميزة التركيب والطعم والخصائص، والأعناب المثمرة المتباينة الأصناف بثمارها الطيبة المفيدة، وكذلك الفواكه الكثيرة المعلومة لنا جميعا، والنباتات الإقتصادية من القمح والشعير والأرز والذرة أصل الغذاء على الأرض ، ونباتات الزيوت كالسمسم ودوار الشمس , وأخرج لنا بفضله ثم بالماء شجرة الزيتون المباركة ذات الثمار المحتوية على كمية عالية من زيت الزيتون بخصائصه الغذائية، والصحية، والتركيبية المعجزة والنافعة , وفي ثمرات هذه الشجرة من الفوائد الكثيرة حيث تخلل الثمار وتدخل في صناعة بعض الأكلات المتميزة وتؤكل بعد تخليلها، وفي ثمرات الزيتون علاوة على الزيت المبارك بفوائده الغذائية والصحة مواد بروتينية وفيها الأحماض الأمينية الأساسية , ومنها حمض الفينيل ألانين الذي يتحول في جسم الإنسان إلى تيروزين , والذي يتحول إلى الميلانين , الصبغة التي تصبغ الجلد والرموش والعيون في الإنسان.
هذا وبالله التوفيق وفوق كل ذي علم عليم.
أ.د. نظمي خليل أبوالعطا موسى